محمد علي محسن
الدكتور جون قرنق إلى لحظة مصرعه في حادثة تحطم طائرة عمودية ظل متمسكا بوحدة السودان ، فبرغم زعامته للحركة الشعبية المطالبة باستقلال الجنوب السوداني عن شماله وبحق تقرير المصير منذ نحو نصف قرن إلا أن أتفاق السلام في نيروبي عام 2005م كان قد منح الجنرال قدر من التفاؤل والأمل بإمكانية الاستمرار والمواصلة في كنف السودان الجديد الذي راح يبشر به جنوده وأتباعه .
المتابع لخطب قرنق الأخيرة سيدرك إلى أي مدى كان الرجل يعول على هذا السودان الواحد لكل أبنائه وبمختلف أديانهم وأعراقهم ولغاتهم وجغرافيتهم ، فكيف ولماذا حدث هذا الانقلاب ؟ البعض ربما قد يعتبر كلام الزعيم الجنوبي -المعروف بمناهضته الدائبة من أجل استقلال الإقليم ذو الأغلبية المسيحية والزنجية - بمثابة الحيلة والدهاء السياسي التكتيكي الذي من شأنه بلوغ غايته المنشودة (الاستفتاء ) حول مصير الجنوب باعتباره أخر الحلول الموضوعة في أتفاق السلام .
ولكن ذلك لا يمنع أو ينفي حقيقة تخليه عن لغة العنف والتجزئة ، وقبوله بتمثيل الجنوب في ائتلاف الحكومة والرئاسة لبلد موحد أسمه السودان ، فبمجرد قبوله في السلطة المركزية ، يعني أنه مع وحدة الدولة السودانية الحديثة القائمة أسسها على الشراكة في هذه الدولة بما تعني من سلطة وقوة وقرار ومواطنة وغيرها .
السؤال الجوهري هو كيف تبدد الأمل وصار سرابا ؟ ولماذا عاد (سيلفا) خلف الجنرال قرنق ونائب الرئيس البشير إلى فكرة تقرير مصير الجنوب ؟ الواقع أن السودان الجديد المتشارك فيه كل السودانيين لم يكن سوى فكرة جيدة أثبتت الممارسة السياسية الأحادية أن لا مكان لها في السودان العتيق .
السنوات الخمس التالية لاتفاق السلام مثلت فرصة لبلورة ولتجسيد فكرة هذا السودان المختلف في ملامحه وجوهره عن السودان المتخلف القائم ، مع هذه الفرصة وهذه التهدئة وهذه الشراكة المحدودة للجنوبيين تبددت كل الخيارات ، وتلاشت كل الممكنات التي من شأنها مواصلة عملية الاندماج والمشاركة الشعبية في نهضة وبناء هذا الكيان الكبير المتسع للجميع ،
فبدلا من الانتقال إلى ما بعد حكومة الوحدة الوطنية ، إلى الانتخابات البرلمانية والرئاسية الحرة والنزيهة كشرطية ضامنة لمسيرة السودان الحديث ؛ رأينا العكس إذ ظل هذا التمثيل في السلطة المركزية مجرد شكل بلا محتوى ، كما ظلت محاولات الإصلاح السياسي والديمقراطي غير فاعله ومؤثرة على صعيد الواقع .
هذا الإصرار المستميت لبقاء السودان مثلما كائن بلا شك وراء ما حدث من تراجع لفكرة التوحد في الجنوب وربما سيكون سببا لبروز حركات انفصالية في المستقبل القريب أكان في دارفور الغرب أو في الشرق أو الشمال .
0 التعليقات: on "السودان الذي مات"
إرسال تعليق